يمتلك العقل البشري قدرة هائلة على تفسير الأحداث وإعطائها معنى، غير أنّ هذه القدرة ليست دائماً دقيقة أو موضوعية، إذ كثيراً ما نقع في ما يُسمّى أخطاء التفكير أو التشوهات المعرفية. وهذه التشوهات هي أنماط غير دقيقة من التفكير تجعل الإنسان يبالغ في التعميم أو يفسر المواقف بطريقة سلبية أو متطرفة، مما يؤدي إلى زيادة الانفعال العاطفي، وصعوبة ضبط المشاعر، والدخول في دائرة من السلوك الاندفاعي الذي قد يسبب مشكلات في العلاقات والعمل والحياة اليومية.
النموذج المعرفي السلوكي يوضح أن الأفكار تولد مشاعر، والمشاعر تقود إلى سلوكيات. فإذا كان التفكير مشوهاً أو غير دقيق، فإن المشاعر الناتجة عنه تكون مشحونة ومبالغاً فيها، مما يدفع الفرد إلى أفعال غير مدروسة. على سبيل المثال، إذا فسر شخص تأخر صديقه عن موعد اللقاء بأنه "إهانة متعمدة"، فسوف يشعر بالغضب وربما يتصرف بانفعال أو يقطع العلاقة بشكل اندفاعي، في حين أن التفسير الواقعي قد يكون مجرد ظرف خارج عن الإرادة.
التعميم المفرط
قد يفشل الطالب في اختبار واحد فيقول لنفسه: "أنا فاشل في كل شيء". هذا التفكير يولد إحباطاً شديداً يدفعه إلى ترك المذاكرة تماماً أو الانسحاب من محاولات أخرى، وهو سلوك اندفاعي يضر بمستقبله.
التفكير بالأبيض والأسود
يرى الموظف أن مديره إما راضٍ عنه بالكامل أو غير راضٍ على الإطلاق. فإذا تلقى ملاحظة نقدية بسيطة، قد يفسرها على أنها "كره" أو "رفض"، فيشعر بالإهانة ويقدم على الاستقالة بشكل متسرع بدلاً من تحسين أدائه.
قراءة الأفكار
تفترض الزوجة أن زوجها لا يهتم بها لأنه لم يعلق على ملابسها الجديدة، فتشعر بخيبة أمل وتغضب، وقد تنفجر في جدال حاد معه دون أن تتأكد من سبب صمته. هذا الموقف يعكس كيف يؤدي سوء التفسير إلى اندفاع عاطفي وسلوكي.
الكارثية
عند تأخر الابن عن العودة للمنزل نصف ساعة، تفترض الأم فوراً أنه تعرض لحادث خطير. هذا التفكير يثير ذعراً شديداً قد يدفعها إلى ردود أفعال مبالغ فيها، مثل الاتصال المتكرر أو افتعال مشكلات أسرية دون التحقق من الحقيقة.
"يجب" و"لازم"
الشاب الذي يقول لنفسه: "يجب أن أكون الأفضل دائماً" يضغط على نفسه بشدة. فإذا أخفق في موقف اجتماعي، يشعر بالفشل والخزي، وقد ينسحب من المواقف الاجتماعية كلها بشكل اندفاعي.
التشوهات المعرفية تجعل الفرد يرى العالم من منظور ضيق وسلبي، مما يزيد من حدة القلق أو الغضب أو الإحباط. هذه المشاعر عندما تصل إلى مستوى عالٍ تجعل الشخص غير قادر على التريث أو التفكير المنطقي، فيندفع إلى سلوكيات قد يندم عليها لاحقاً مثل: الصراخ، الانسحاب المفاجئ، اتخاذ قرارات حاسمة دون دراسة، أو إيذاء الذات.
الوعي بالتشوهات
الخطوة الأولى هي إدراك أن هناك أنماطاً من التفكير غير الواقعي تتحكم في المشاعر. بمجرد التعرف على هذه الأنماط (مثل التعميم، الكارثية، قراءة الأفكار)، يصبح من الممكن مراقبتها والتعامل معها.
التريث قبل الفعل
عند مواجهة موقف يثير الغضب أو القلق، يمكن تدريب النفس على إعطاء مساحة زمنية قصيرة بين الفكرة والاستجابة. مثلاً، العدّ حتى عشرة، أو أخذ نفس عميق، أو مغادرة المكان لبضع دقائق قبل الرد.
البحث عن الفكرة البديلة
بدلاً من الاستسلام للفكرة المشوهة، يمكن سؤال النفس: "ما الدليل على صحة هذه الفكرة؟" أو "هل هناك تفسير آخر أكثر واقعية؟".
إذا تأخر الصديق، قد يكون السبب ازدحام المرور، لا إهانة متعمدة.
إذا انتقد المدير أداءً معيناً، فقد يكون هدفه التطوير وليس الرفض الكامل.
الحوار الداخلي الإيجابي
استبدال العبارات القاسية بأخرى واقعية ولطيفة. مثلاً: بدلاً من "أنا فاشل دائماً"، يمكن قول "لقد أخطأت هذه المرة، وسأتعلم منها لتحسين أدائي".
استخدام مهارات حل المشكلات
عند مواجهة أزمة، بدلاً من الاندفاع وراء المشاعر، يمكن كتابة المشكلة وتحديد البدائل واختيار الحل الأكثر واقعية وهدوءاً. هذا يقلل من ردود الفعل الانفعالية ويزيد من السيطرة على الذات.
التدريب على مهارات تنظيم المشاعر
مثل التأمل، تمارين الاسترخاء، إعادة التقييم المعرفي، والحديث مع النفس بطريقة مشجعة. هذه الأدوات تمنح الشخص فرصة لإعادة التوازن قبل اتخاذ أي سلوك.
إن التشوهات المعرفية هي عدسة مشوشة تجعل الفرد يرى الواقع بشكل مضلل، فتزداد مشاعره حدة ويصبح أكثر عرضة للسلوك الاندفاعي. غير أن الوعي بهذه الأخطاء، والتدريب على التريث وإيجاد أفكار بديلة أكثر واقعية، يمنح الإنسان فرصة لضبط انفعالاته واتخاذ قرارات أكثر حكمة. فكل لحظة وعي بالتفكير تعني فرصة جديدة للتحكم في المشاعر وتعديل السلوك بما يحقق التوازن النفسي والعلاقات الصحية.
لمشاهدة حلقات الكورس
(3 ساعات من الشرح والتطبيق العملى) وتحميل الجزء الثانى من كتاب الأنشطة العملية لإدارة وتنظيم المشاعر تواصل معنا من هنا