تُعد اضطرابات القلق من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا في العالم، إذ تؤثر على ملايين الأشخاص من مختلف الأعمار. ومن بين الأعراض غير الشائعة نسبيًا، ولكنها شديدة الإزعاج، والتي قد تصاحب اضطرابات القلق، ما يُعرف بـاضطراب تبدد الشخصية أو اختلال الآنية وهو شكل من أشكال الانفصال العقلي يشعر فيه الفرد بانفصال عن ذاته أو عن جسده، كأنّه يراقب نفسه من الخارج أو يعيش في حلم دائم. وعلى الرغم من أنّ تبدد الشخصية قد يحدث كاضطراب مستقل، يعرف باسم اضطراب تبدد الشخصية وتبدد الواقع، إلا أنه غالبًا ما يظهر كعرض مرافق لأنواع متعددة من اضطرابات القلق.
تبدد الشخصية هو أحد أشكال الاضطرابات الانفصالية، حيث يشعر الشخص بانفصال غريب عن نفسه، أو وكأنّه غريب عن جسده، أو أنّ أفكاره لا تخصه. من العبارات الشائعة التي يرددها المصابون بهذا الاضطراب:
"أشعر وكأنني أراقب نفسي من الخارج."
"جسدي لا يبدو حقيقياً."
"أشعر كأنني أعيش في حلم، أو أنّ حياتي غير حقيقية."
وغالبًا ما يترافق تبدد الشخصية مع تبدد الواقع، وهو شعور بأن البيئة المحيطة غير حقيقية أو ضبابية أو بعيدة.
تشير اضطرابات القلق إلى مجموعة من الاضطرابات النفسية التي تتسم بالخوف أو التوتر أو القلق المفرط، والذي يعيق سير الحياة اليومية. من أبرز أنواع اضطرابات القلق:
اضطراب القلق العام
اضطراب الهلع
اضطراب القلق الاجتماعي
الرهاب (الفوبيا) المحدد
اضطراب الوسواس القهري (OCD)
اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)
وغالبًا ما تترافق هذه الاضطرابات بأعراض جسدية ونفسية، من بينها أعراض انفصالية مثل تبدد الشخصية.
يُعد تبدد الشخصية استجابة وقائية يلجأ إليها الدماغ عندما يشعر بضغط نفسي أو عاطفي هائل. ومن أهم الآليات التي تفسر ذلك:
1- استجابة الكرّ أو الفرّ أو التجمّد
عند مواجهة خطر حقيقي أو مُتصوَّر، ينشط الجهاز العصبي التلقائي ليُعد الجسم للهرب أو المواجهة. ولكن في حال عدم وجود تهديد خارجي ملموس، قد يلجأ الدماغ إلى "التجمّد" عبر تعطيل الاستشعار الكامل بالذات أو البيئة، وهو ما يُنتج شعور الانفصال أو التبلّد العاطفي.
2- الإرهاق المعرفي والذهني
القلق يستهلك طاقة ذهنية هائلة في صورة تفكير مفرط أو اجترار للأفكار، ما يؤدي أحيانًا إلى شعور بالانفصال كنوع من الحماية العصبية.
3- المراقبة المفرطة للذات
الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الهلع أو القلق المزمن يراقبون أجسامهم ومشاعرهم بشكل مفرط، ما يؤدي إلى تراجع الإحساس الطبيعي بالذات وظهور شعور بالمراقبة الخارجية أو الانفصال.
4- الخوف من فقدان السيطرة أو الجنون
عندما يختبر المصابون بالقلق تبدد الشخصية لأول مرة، قد يفسّرونه بشكل خاطئ على أنه بداية انهيار عقلي أو علامة على فقدان العقل، ما يزيد من القلق ويعزز استمرار الأعراض في دائرة مفرغة.
يُعد اضطراب الهلع من أكثر اضطرابات القلق ارتباطًا بتبدد الشخصية. أثناء نوبة الهلع، يمر الشخص باندفاعٍ مفاجئ من خبرة الخوف، يصحبه تسارع في ضربات القلب، ضيق في التنفس، وشعور بالاختناق أو بالجنون. نتيجة لهذا التفاعل الحاد، قد يُفعّل الدماغ آلية "الفصل" أو "الانفصال"، كأن يفصل الوعي عن الجسد مؤقتًا، ما يؤدي إلى خبرة تبدد الشخصية.
وفي كثير من الأحيان، يصبح الخوف من الإحساس بالانفصال نفسه أحد مصادر القلق، ما يُعرف بـالقلق الثانوي، ويؤدي إلى مزيد من النوبات.
رغم أن تبدد الشخصية أو اختلال الآنية قد يظهر بشكل مؤقت خلال الأزمات، إلا أنه قد يتحول إلى حالة مزمنة لدى بعض الأشخاص، فيما يعرف بـاضطراب تبدد الشخصية وتبدد الواقع (DPDR)، حين تستمر الأعراض لفترات طويلة قد تصل إلى أشهر أو سنوات. وغالبًا ما يكون القلق المزمن أو غير المعالَج هو المحرّك الرئيسي لاستمرار هذه الأعراض.
رغم أن تبدد الشخصية يُعدّ استجابة نفسية شائعة في ظروف التوتر والقلق الشديد، فإن له أيضًا أسسًا بيولوجية واضحة تُفسّر كيف ولماذا ينشأ هذا الشعور الغريب بالانفصال عن الذات أو الجسد. فيما يلي نستعرض أهم هذه العوامل البيولوجية:
1. خلل في نشاط اللوزة الدماغية (Amygdala)
اللوزة الدماغية هي بنية صغيرة في الدماغ تلعب دورًا رئيسيًا في معالجة الخوف والعواطف.
في اضطرابات القلق، تكون اللوزة مفرطة النشاط، لكن في حالات تبدد الشخصية، أظهرت دراسات التصوير العصبي أن نشاط اللوزة ينخفض بشكل ملحوظ.
هذا الانخفاض يؤدي إلى تثبيط المشاعر، وبالتالي يشعر الشخص بأنه "بلا عاطفة" أو كأنه "روبوت"، وهي من السمات الجوهرية لتبدد الشخصية.
معلومة هامة: الدماغ في حالات الخطر الشديد قد يعمد إلى "فصل" الشعور العاطفي عن التجربة لحماية الفرد من الانهيار النفسي، وهي آلية شبيهة بتبدد الشخصية.
2.. فرط نشاط القشرة الجبهية (Prefrontal Cortex)
القشرة الجبهية مسؤولة عن التفكير المنطقي، التخطيط، وتثبيط الاستجابات العاطفية.
في حالات تبدد الشخصية، تُظهر هذه المنطقة نشاطًا زائدًا، مما يُسبب كبتًا مفرطًا للعاطفة والانفصال عن الشعور الطبيعي بالذات.
يفسر ذلك لماذا يظهر لدى المصابين قدرة عقلية على ملاحظة الانفصال وتحليله (أي أنهم يدركون أنه شعور غير طبيعي)، ولكنهم عاجزون عن الخروج منه عاطفيًا.
3.اختلال في شبكة الوضع الافتراضي (Default Mode Network - DMN)
DMN هي شبكة من مناطق الدماغ تنشط عندما يكون الفرد في حالة تفكير داخلي أو تأمل أو استرجاع للذات.
في حالات تبدد الشخصية، أظهرت الأبحاث وجود اضطراب في هذه الشبكة، مما يؤدي إلى تشوّه الإحساس بالهوية الذاتية أو بـ"مَن أنا".
هذا ما يجعل المصاب يشعر وكأنه "غريب عن نفسه" أو غير مرتبط بذاته الحقيقية.
4. خلل في التواصل بين الفص الجبهي والفص الصدغي
الفص الجبهي مسؤول عن التنظيم المعرفي، بينما الفص الصدغي يلعب دورًا مهمًا في الإحساس بالزمن والهوية والواقع.
الخلل في الاتصال بين هذين الفصين قد يؤدي إلى تشويش إدراكي فيما يتعلق بالجسد والوعي بالذات، ما يُحدث تجربة تبدد الشخصية.
5.خلل فى مستوى النواقل العصبية
أ. السيروتونين (Serotonin):
له دور في تنظيم المزاج والوعي والمرونة النفسية.
انخفاض مستوياته مرتبط بالقلق والاكتئاب، وهو ما يمهد لظهور أعراض الانفصال.
ب. الجلوتاميت (Glutamate):
ناقل عصبي محفز يؤثر على الاتصال بين الخلايا العصبية.
يرتبط فرط أو ضعف نشاطه بظهور أعراض تبدد الشخصية في بعض الدراسات الحديثة، خاصة في حالات القلق المزمن أو الصدمات النفسية.
ج. الأفيونات الذاتية (Endogenous Opioids):
وهي مواد طبيعية يفرزها الدماغ لتخفيف الألم العاطفي أو الجسدي.
يُعتقد أن الإفراز الزائد لهذه المواد أثناء الصدمة أو الضغط الشديد يؤدي إلى شعور بالخَدَر أو الانفصال كآلية دفاعية.
6.الاستجابة الدفاعية الدماغية للصدمة
عند التعرّض لصدمات نفسية شديدة (مثل حوادث أو اعتداءات)، يقوم الدماغ بما يُشبه "فصل الدوائر" لحماية النفس من الانهيار.
هذه الاستجابة البيولوجية الدفاعية هي إحدى التفسيرات الجوهرية لتبدد الشخصية، وقد تبقى نشطة حتى بعد انتهاء الحدث المؤلم.
نظرًا للعلاقة الوثيقة بين القلق وتبدد الشخصية، فإنّ العلاج الفعّال غالبًا ما يتطلب التعامل مع كليهما في آنٍ واحد.
1. العلاج المعرفي السلوكي (CBT)
يساعد في:
تعديل الأفكار الكارثية (مثل: "أنا أفقد عقلي").
تقليل التجنّب.
استخدام تمارين "التأريض" لإعادة الشخص إلى اللحظة الحاضرة.
2. العلاج باليقظة الذهنية (Mindfulness)
يُدرِّب العقل على ملاحظة الأفكار والمشاعر دون الانجراف معها، مما يقلل من الانفصال.
3.الأدوية
مثبطات استرداد السيروتونين (SSRIs) فعالة في تقليل القلق وبالتالي تقليل اختلال الآنية.
البنزوديازيبينات تُستخدم أحيانًا على المدى القصير، ولكنها قد تزيد من الانفصال لدى البعض.
لاموترجين (Lamotrigine): أظهر بعض الفعالية في أبحاث صغيرة لعلاج تبدد الشخصية المزمن.
4. التثقيف النفسي
فهم ماهية تبدد الشخصية كآلية وقائية مؤقتة وغير خطيرة يخفف كثيرًا من الهلع المرتبط بها، ويُسهم في كسر دائرة القلق والانفصال.
بقى أن نؤكد على أن تبدد الشخصية من الأعراض المؤرقة المرتبطة بالقلق، لكنه ليس علامة على الجنون أو الانهيار العقلي. بل هو استجابة وقائية من الدماغ تهدف إلى حماية الفرد من الألم النفسي الحاد، رغم أنها قد تكون خبرة مزعجة. ومن خلال الفهم العميق للعلاقة بين القلق وتبدد الشخصية، يمكن الوصول إلى خطة علاجية فعّالة تساعد الفرد على استعادة شعوره بالذات والعودة إلى واقع أكثر توازنًا وارتباطًا.