التفكير سمة إنسانية أساسية تساعدنا على التخطيط واتخاذ القرارات، غير أنّه يتحوّل أحيانًا إلى عبء ثقيل يُنهك العقل والجسد عندما يأخذ طابع التفكير المفرط (Overthinking). هذه الحالة لا تقتصر على القلق بشأن المستقبل فحسب، بل تمتد لتشمل اجترار أحداث الماضي، وتخيّل سيناريوهات لم تحدث، والانشغال الدائم بما قد يكون أو لا يكون.
التفكير المفرط هو انغماس العقل في سلسلة لا تنتهي من الأفكار والفرضيات، دون التوصل إلى حلول أو إجراءات عملية.
 قد يفكّر الشخص في كل ما سيحدث غدًا: ماذا لو فشلت؟ ماذا لو لم أكن مستعدًا؟، أو ينغمس في تحليل تفاصيل دقيقة بشكل متكرر: هل قلت الكلمة المناسبة؟ هل يضحكون عليّ؟، وأحيانًا يصل الأمر إلى ما يشبه الوسواس الفكري، إذ تسيطر فكرة محددة على الذهن وتلحّ عليه باستمرار، مما يمنع التركيز في العمل أو الاستمتاع بالحياة.
يعود التفكير المفرط غالبًا إلى الخوف من المجهول أو الرغبة في السيطرة الكاملة على المستقبل. فالعقل يحاول تخيّل كل السيناريوهات المحتملة حتى يتجنّب الألم أو الفشل. لكن هذه المحاولة غالبًا ما تبوء بالفشل لأنها ترتكز على افتراضات لا نملك بياناتها بعد.
كما أن الكمالية تعدّ سببًا شائعًا، إذ يسعى بعض الأشخاص إلى إنجاز الأمور بأعلى مستوى ممكن، فيجدون أنفسهم غارقين في تفاصيل غير مهمة. كذلك يلعب القلق الاجتماعي دورًا مهمًا، حيث يظلّ الشخص منشغلاً بتأثير كلامه أو مظهره أمام الآخرين، فيتساءل: هل ضحكوا عليّ؟ هل قلت شيئًا خاطئًا؟
للتفكير الزائد مظاهر متنوّعة، أبرزها:
تكرار مراجعة الأخطاء الماضية والندم عليها.
وضع سيناريوهات مستقبلية سلبية قد لا تحدث مطلقًا.
الانشغال المفرط بالمشكلات الصحية البسيطة وتحويلها إلى كوارث محتملة.
التردد المزمن وصعوبة اتخاذ القرارات.
الانفصال عن الحاضر وعدم القدرة على الاستمتاع باللحظة.
القلق المستمر والعيش في حالة من التوجس والترقّب.
عندما ينشغل العقل في دائرة مفرغة من التفكير دون أفعال، تزداد مشاعر القلق والتوتر، ويشعر الفرد بالعجز وقلة الحيلة. كما يؤدي ذلك إلى اضطرابات النوم، ضعف الإنتاجية، وتشويه الصورة الذاتية. والأسوأ من ذلك أنّ التفكير الزائد يسرق منّا الحاضر، فلا نستطيع أن نعيش اللحظة كما هي.
التحرك بدل الاستغراق في التفكير
إذا كانت المشكلة واقعية ولديك حل متاح الآن، فاتخذ إجراء فوريًا. فالتحرك يقلّل من سيطرة الخوف، ويمنحك شعورًا بالتحكم. أما الاستمرار في التفكير فقط فيزيد القلق ويستنزف الطاقة.
التمييز بين ما يمكن السيطرة عليه وما لا يمكن
ليس كل ما يشغل أذهاننا يمكننا السيطرة عليه. بعض الأمور خارجة تمامًا عن إرادتنا، مثل المرض أو قرارات الآخرين. لذا من الحكمة أن نسأل أنفسنا: هل أستطيع فعل شيء حيال هذه المشكلة الآن؟
إن كانت الإجابة نعم: ابدأ بخطوة عملية.
إن كانت لا: توقف عن التفكير وتقبّل أن الأمر ليس في يدك.
وضع حدود زمنية للتفكير
خصص وقتًا لا يتجاوز 20–30 دقيقة يوميًا للتفكير في مشكلاتك. خلال هذه الفترة، دوّن أفكارك، ضع حلولًا، أو تحدث مع شخص تثق به. بعد انتهاء الوقت، الزم نفسك بالتوقف، وانتقل إلى نشاط آخر. هذه الطريقة تساعد على تنظيم العقل وتمنع الانغماس المستمر في دائرة التفكير.
كسر نزعة الكمال
الكمال وهم يستنزف صاحبه. حاول أن تكتفي بما هو جيد بما فيه الكفاية (Good Enough) بدلًا من السعي وراء المثالية المطلقة. فالتوقعات العالية جدًّا تزيد التردد وتجعل أي قرار يبدو ناقصًا، وهو ما يعزز التفكير المفرط.
استخدام استراتيجيات اتخاذ القرار
في حال كان التفكير مرتبطًا بقرار مصيري، اكتب قائمة بالخيارات المتاحة، ثم قيّم الإيجابيات والسلبيات لكل خيار. قلة البدائل تساعد على وضوح الرؤية. تذكّر أن القرار المثالي لا وجود له، والأفضل هو الاختيار العملي الذي يلبي احتياجاتك الأساسية.
ممارسة اليقظة الذهنية (Mindfulness)
اليقظة الذهنية تعني العودة إلى اللحظة الحالية، بدلاً من الانسياق وراء الماضي أو المستقبل.
 يمكنك تطبيقها من خلال:
ملاحظة الأفكار دون مقاومة، وتركها تمرّ مثل السحابة في السماء أو الورقة الطافية فوق الماء.
إدراك أن الأفكار ليست حقائق، بل مجرد تصورات قد لا تتحقق.
التركيز على التنفس أو الحواس لإعادة العقل إلى اللحظة.
هذه الممارسة البسيطة تقلّل من التوتر وتمنحك مسافة آمنة بينك وبين أفكارك.
الاستفادة من العلاج المعرفي السلوكي (CBT)
يساعد هذا النوع من العلاج على تحدي الأفكار غير المنطقية وإعادة تقييمها بموضوعية. فبدلاً من الانغماس في السيناريوهات السلبية، نتعلم أن نسأل: هل هذه الفكرة مبنية على دليل حقيقي؟ أم مجرد افتراض؟
خلاصة القول أن التفكير المفرط مشكلة شائعة تحرمنا من الراحة والقدرة على الاستمتاع بالحياة. لكن السيطرة عليه ممكنة من خلال التوازن بين التفكير والفعل، والتمييز بين ما نستطيع التحكم فيه وما لا نستطيع، إلى جانب ممارسة اليقظة الذهنية ووضع حدود واضحة لوقتنا وأفكارنا.
تذكّر أنّ الأفكار ليست حقائق، وأنك أقوى مما تتصور. في اللحظة التي تتوقف فيها عن مطاردة المستقبل أو اجترار الماضي، تبدأ فعلًا في عيش حياتك كما تستحق.