يُعد القلق أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً في عصرنا الحالي، حيث يعاني ملايين الأشخاص حول العالم من أعراضه بدرجات متفاوتة. ورغم أن القلق في حد ذاته قد يكون استجابة طبيعية لحماية الإنسان من الأخطار، إلا أن تحوله إلى حالة مزمنة أو مبالغ فيها يجعله عبئاً على الصحة النفسية والجسدية، ويؤثر سلباً في العلاقات والعمل وجودة الحياة. ومن هنا تأتي أهمية تطوير مهارات نفسية معرفية تساعد الفرد على التعامل مع القلق بفاعلية، ومن أبرز هذه المهارات مهارة حل المشكلات.
هذه المهارة لا تقتصر على مواجهة التحديات اليومية فقط، بل تمثل أداة علاجية رئيسية تساعد المريض على التفرقة بين القلق الواقعي والقلق المتخيل، وإعادة صياغة الموقف بشكل منطقي يقلل من حدة التوتر.
يمكن التمييز بين نوعين رئيسيين من القلق، لكل منهما طبيعة خاصة:
1. القلق الناتج عن مشكلات حقيقية واقعية
o يظهر عندما يواجه الفرد ضغوطاً أو مواقف حياتية تحتاج إلى قرارات عملية مثل فقدان الوظيفة، خلافات زوجية، أو أزمات مالية.
o هذا النوع من القلق يمكن أن يكون دافعاً إيجابياً إذا وُظِّف في اتخاذ خطوات عملية لحل المشكلة، لكنه قد يتحول إلى حالة مُعطِّلة إذا افتقد الشخص القدرة على التنظيم والتفكير المنطقي.
2. القلق المتخيل الناتج عن الهواجس والخوف من المجهول
o ينشأ من أفكار وسيناريوهات مستقبلية سلبية يضعها العقل دون وجود أساس واقعي قوي.
o من أمثلته الخوف المستمر من الإصابة بمرض خطير رغم عدم وجود أعراض، أو القلق من فشل لم يحدث بعد.
o هذا النوع يرتبط عادةً باضطرابات القلق العام والرهاب، ويستنزف الطاقة العقلية دون فائدة واقعية.
تُعد مهارة حل المشكلات تقنية معرفية سلوكية جوهرية في علاج القلق، إذ تساعد الفرد على:
1.    التفريق بين المشكلات الواقعية والخيالية:
 عندما يتعلم المريض أن يسأل نفسه: هل هذه المشكلة واقعية ويمكنني التصرف بشأنها، أم أنها مجرد افتراضات لا وجود لها؟، يصبح أكثر قدرة على توجيه جهده نحو ما يمكن تغييره فعلاً.
2.    تجزئة المواقف الكبيرة إلى خطوات صغيرة:
 عوضاً عن الشعور بالعجز أمام مشكلة معقدة، يتعلم الفرد كيفية تقسيمها إلى عناصر قابلة للحل خطوة بخطوة، مما يقلل من حدة التوتر.
3.    توليد بدائل متعددة للحل:
 بدلاً من الوقوع في فخ التفكير الثنائي (إما النجاح أو الفشل)، تساعد هذه المهارة في ابتكار حلول وسطية ومرنة، وهو ما يقلل من الشعور بالانسداد النفسي والعقلى(البلوك الذهنى)
4.    تعزيز الإحساس بالتحكم والسيطرة:
 القلق غالباً ما يرتبط بشعور بفقدان السيطرة، بينما ممارسة حل المشكلات تعيد للفرد إحساسه بالقدرة على إدارة الموقف.
لفهم القلق بشكل أدق، لا بد من النظر إلى ما يحدث في الدماغ:
1. مراكز المخ المسؤولة عن القلق
o اللوزة الدماغية (Amygdala): تلعب دوراً رئيسياً في توليد استجابة الخوف والقلق عند مواجهة تهديدات.
o القشرة الجبهية الأمامية (Prefrontal Cortex): مسئولة عن التنظيم والتقييم المنطقي للمخاطر، ويضعف نشاطها عند زيادة القلق.
o الحُصين (Hippocampus): يرتبط بالذاكرة والخبرات السابقة التي تُغذي مشاعر القلق.
2. النواقل العصبية المرتبطة بالقلق
o السيروتونين: انخفاضه يرتبط بزيادة القلق والاكتئاب.
o النورأدرينالين: فرط نشاطه يسبب فرط يقظة وتسارع ضربات القلب.
o حمض الجاما أمينوبوتيريك (GABA): الناقل المثبط الرئيسي الذي يهدئ نشاط الدماغ، وعند انخفاضه يقل التحكم في القلق.
1. العلاج السلوكي المعرفي (CBT)
يُعد الأكثر شيوعاً وفعالية، حيث يركز على تعديل أنماط التفكير المشوهة وتعلم مهارات مثل الاسترخاء وحل المشكلات. ويمر العلاج بمراحل مثل:
التعرف على الأفكار المقلقة وتحديها.
استبدالها بأفكار أكثر واقعية.
تطبيق استراتيجيات المواجهة التدريجية للمواقف المثيرة للقلق.
2. العلاج الدوائي
في بعض الحالات الشديدة قد يوصي الطبيب باستخدام أدوية مثل:
مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية (SSRIs) مثل فلوكسيتين وسيرترالين، وهي تقلل من فرط نشاط مراكز القلق في المخ.
البنزوديازيبينات (بجرعات محدودة وقصيرة المدى) لتقليل الأعراض الحادة.
أدوية داعمة مثل مضادات القلق غير المهدئة (بوسبيرون).
3. استراتيجيات المساعدة الذاتية
ممارسة التأمل وتمارين التنفس العميق.
الحفاظ على روتين نوم صحي.
ممارسة الرياضة لتقليل التوتر البدني والعقلي.
كتابة اليوميات(سجل التدوين اليومي) لتفريغ الهواجس وتحويلها إلى خطط عملية.
خلاصة القول أن القلق ليس مجرد حالة نفسية عابرة، بل هو تفاعل معقد بين أفكار الفرد، مهاراته في التعامل مع الضغوط، وآليات عصبية داخل الدماغ. وهنا تبرز أهمية تعلم مهارة حل المشكلات كوسيلة علاجية فعالة تساعد المريض على التفرقة بين ما هو حقيقي وما هو متخيل، وتحويل مشاعر العجز إلى خطوات عملية قابلة للتنفيذ.
إن الدمج بين العلاج السلوكي والدوائي، إلى جانب الممارسات الحياتية الصحية، يمثل أفضل نهج شامل للتغلب على القلق. لكن تبقى مهارة حل المشكلات هي المفتاح الأساسي الذي يمنح الفرد القدرة على مواجهة تحديات الحياة بثقة ومرونة، بدلاً من الاستسلام للهواجس والخوف من المجهول.