تُعَدّ الذاكرة العاملة (Working Memory) إحدى أهم القدرات المعرفية التي يعتمد عليها الإنسان في التفكير وحلّ المشكلات وتنظيم السلوك اليومي. فهي أشبه بمكتب العمل الذهني الذي يحتفظ بالمعلومات مؤقتاً أثناء استخدامها في مهام مختلفة، مثل فهم المحادثة، أو إجراء العمليات الحسابية في الذهن، أو تذكّر تعليمات متعددة أثناء أداء مهمة واحدة.ورغم بساطة تعريفها، فإنّ ضعف الذاكرة العاملة يُعدّ من أكثر الأسباب الخفية وراء صعوبات التعلم، وانخفاض الكفاءة المهنية، والمشكلات في العلاقات الاجتماعية.
الذاكرة العاملة هي نظام معرفي مؤقت يتيح للدماغ تخزين المعلومات ومعالجتها في الوقت ذاته. تختلف عن الذاكرة القصيرة المدى التي تحتفظ بالمعلومة فقط دون معالجتها، فالذاكرة العاملة تُمكّن الفرد من استخدام تلك المعلومات لاتخاذ قرارات سريعة أو لحلّ مشكلة آنية.
 فعلى سبيل المثال، حين تحاول حلّ مسألة رياضية في ذهنك، فإنك تستخدم الذاكرة العاملة للاحتفاظ بالأرقام المؤقتة والعمليات الحسابية لحين الوصول إلى النتيجة النهائية.
 وتتكوّن الذاكرة العاملة من ثلاثة مكونات رئيسية:
1. المدير التنفيذي المركزي: المسؤول عن توجيه الانتباه وتوزيع الموارد الذهنية بين المهام المختلفة.
2. الحلقة الصوتية: تحفظ المعلومات اللفظية والأرقام والتعليمات اللغوية.
3. المفكرة البصرية المكانية: تحفظ الصور والأشكال والمواقع البصرية مؤقتاً.
قد يلاحظ الفرد على نفسه بعض العلامات التي تشير إلى ضعف هذه الذاكرة، مثل:
صعوبة تذكّر التعليمات متعددة الخطوات.
النسيان السريع لما قيل قبل لحظات في محادثة أو اجتماع.
فقدان القدرة على متابعة فيلم أو قراءة نص طويل دون تشتّت.
صعوبة في حلّ المسائل المعقّدة التي تتطلب عدة مراحل ذهنية.
الارتباك عند أداء أكثر من مهمة في الوقت نفسه.
الميل إلى التأجيل بسبب الشعور بالعجز أمام المهام الذهنية المعقدة.
تتعدد الأسباب التي قد تؤدي إلى تدهور أداء الذاكرة العاملة، وتشمل ما يلي:
1. الضغوط النفسية المزمنة: ارتفاع مستوى الكورتيزول يؤثر سلباً على الفص الجبهي ويضعف القدرة على التركيز والاحتفاظ بالمعلومات.
2. قلة النوم واضطراباته: النوم العميق ضروري لترسيخ المعلومات الجديدة وتنشيط الشبكات العصبية المرتبطة بالذاكرة.
3. اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD): يُعدّ ضعف الذاكرة العاملة أحد الأعراض المركزية في هذا الاضطراب، حيث يعاني المريض من تشتّت الانتباه وصعوبة الاحتفاظ بالمعلومات.
4. القلق والاكتئاب: تؤدي إلى استهلاك الموارد الذهنية في التفكير السلبي، مما يضعف قدرة الدماغ على المعالجة المؤقتة للمعلومات.
5. سوء التغذية ونقص الفيتامينات، مثل فيتامين B12 وأوميغا-3، التي تؤثر مباشرة على كفاءة الخلايا العصبية.
6. قلة التحفيز العقلي: فالعقل الذي لا يُدرَّب على التفكير والتحليل يفقد مرونته العصبية بمرور الوقت.
مراكز الذاكرة العاملة موزعة في أكثر من منطقة في الدماغ، أهمها:
الفص الجبهي (Prefrontal Cortex): وهو المسؤول عن التنظيم التنفيذي للمهام، والانتباه، وضبط المعلومة أثناء العمل العقلي.
الفص الجداري (Parietal Lobe): يشارك في معالجة المعلومات المكانية والبصرية، خاصة في العمليات الحسابية والتخطيط المكاني.
الحُصين (Hippocampus): رغم أنّه يُعدّ مركزاً أساسياً للذاكرة طويلة المدى، إلا أنه يتفاعل مع الفص الجبهي لدعم الاحتفاظ المؤقت بالمعلومات وتحويلها إلى ذاكرة دائمة.
 التواصل المستمر بين هذه المراكز يجعل الذاكرة العاملة أداة مرنة، لكنها أيضًا حساسة لأي خلل عصبي أو نفسي.
1.في الدراسة
يُعاني الطلاب الذين لديهم ضعف في الذاكرة العاملة من صعوبة في فهم التعليمات المعقدة أو الاحتفاظ بالمعلومات أثناء القراءة، مما يجعلهم ينسون بداية السؤال قبل الوصول إلى نهايته. كما يواجهون ضعفاً في الرياضيات، وحفظ النصوص، وتنظيم الأفكار أثناء الكتابة.
2. في العمل
في بيئة العمل، يؤدي ضعف الذاكرة العاملة إلى النسيان المتكرر للمواعيد أو المهام، وضعف المتابعة للمشروعات طويلة الأمد. كما أن الشخص قد يعاني من بطء في اتخاذ القرار نتيجة فقدان القدرة على الاحتفاظ بكل عناصر المشكلة في الذهن.
3. في الحياة الاجتماعية والعلاقات
تتأثر العلاقات الاجتماعية أيضاً، إذ قد يبدو الشخص غير مبالٍ أو غير منتبه لما يُقال، فينسى التفاصيل الهامة في الأحاديث أو المواعيد، مما يُفسَّر خطأً على أنه إهمال أو برود. كما أن ضعف التركيز في الحوار يضعف التواصل العاطفي والفهم المتبادل.
1.	التدريب المعرفي المنتظم
 توجد برامج تدريبية قائمة على تمارين الذاكرة العاملة، مثل تذكّر تسلسل الأرقام أو المواقع أو الأنماط البصرية، وقد أثبتت الدراسات أنّ الممارسة المنتظمة لمدة 15–30 دقيقة يومياً تُحدث تحسناً ملموساً في الأداء العقلي.
2.	تمارين الانتباه واليقظة الذهنية (Mindfulness)
 التأمل الواعي وتمارين التنفس تساعد على تهدئة مراكز التوتر وتحسين قدرة الدماغ على التركيز واستبقاء المعلومات.
3.	تنظيم البيئة المحيطة
 تجنّب التشتّت عبر تقليل الضوضاء والمحفزات البصرية أثناء العمل، واستخدام القوائم والتنبيهات لتقليل العبء على الذاكرة العاملة.
4.	النشاط البدني المنتظم
 الرياضة ترفع من تدفق الدم إلى الدماغ، وتحفّز إنتاج عوامل النمو العصبي التي تحافظ على مرونة الشبكات العصبية.
5.	النوم الكافي والعميق
 خلال النوم يتم "تنظيف" الدماغ من النواتج الأيضية (الناتجة عن التمثيل الغذائى) الضارة، وتثبيت المعلومات المكتسبة خلال اليوم.
يُعتبر النظام الغذائي عاملاً محورياً في دعم الذاكرة العاملة. ومن أبرز الأطعمة التي تساهم في ذلك:
الأسماك الدهنية (مثل السلمون والسردين): غنية بأحماض أوميغا-3 الدهنية الضرورية لبناء أغشية الألياف العصبية (لكفاءة نقل النبضات العصبية خلال الألياف العصبية)
المكسرات: تحتوي على فيتامين E ومضادات الأكسدة التي تحمي الخلايا العصبية من التلف.
الخضروات الورقية (كالسبانخ والبروكلي): مصدر لحامض الفوليك والفيتامينات الداعمة لوظائف الدماغ.
التوت بأنواعه: غني بمركبات تعمل على تُحسّين التواصل بين خلايا الدماغ.
الشوفان والحبوب الكاملة: توفر الطاقة المستمرة للدماغ من خلال الكربوهيدرات البطيئة الامتصاص.
يمكن الاستعانة ببعض المكملات لدعم الذاكرة العاملة، لكن بعد استشارة الطبيب المختص، وأهمها:
أوميغا-3: لتحسين الاتصال العصبي.
فيتامين B12: لدوره في تكوين الميالين وحماية الخلايا العصبية.
المغنيسيوم: يشارك في نقل الإشارات العصبية وتقليل التوتر العصبي.
الجينكوبيلوبا (Ginkgo Biloba): نبات طبيعي يزيد من تدفق الدم إلى الدماغ ويُستخدم تقليدياً لتحسين التركيز.
 خلاصة القول: إنّ الذاكرة العاملة ليست مجرد مهارة معرفية، بل هي الركيزة الأساسية للتفكير والتعلم والإنتاجية والتواصل الإنساني. ضعفها ينعكس سلباً على مختلف جوانب الحياة، إلا أن الخبر الجيد هو أنّها وظيفة قابلة للتحسّن عبر التدريب المنتظم، ونمط الحياة الصحي، والدعم الغذائي السليم.
 إنّ العناية بالعقل لا تقلّ أهمية عن العناية بالجسد، فكل جهد يُبذل في تنشيط الدماغ وتغذيته هو استثمار مباشر في جودة الحياة والنجاح المستقبلي.